Re: مدونة أبو مسلم (قصص وفوائد ونوادر)
محاورة بين حاكم وعالم
دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَدِينَةَ
فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثًا
فَقَالَ : مَا هَا هُنَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا
فَقِيلَ لَهُ : بَلَى ، هَا هُنَا رَجُلٌ ، يُقَالُ لَهُ : أَبُو حَازِمٍ . فَبَعَثَ إِلَيْهِ ، فَجَاءَهُ
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، مَا هَذَا الْجَفَاءُ ؟
فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ : وَأَيَّ جَفَاءٍ رَأَيْتَ مِنِّي ؟
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : أَتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ وَلَمْ تَأْتِنِي .
فَقَالَ لَهُ : أُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ
مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَعْرِفَةٌ آتِيكَ عَلَيْهَا
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : صَدَقَ الشَّيْخُ .
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : لأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمُ آخِرَتَكُمْ ، وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ
فَأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ .
قَالَ : صَدَقْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ . فَكَيْفَ الْقُدُومُ ؟
قَالَ : أَمَّا الْمُحْسِنُ ، فَكَالْغَائِبِ ، يُقْدِمُ عَلَى أَهْلِهِ
وَأَمَّا الْمُسِيءُ ، فَكَالآبِقِ يُقْدِمُ عَلَى مَوْلاهُ .
قَالَ : فَبَكَى سُلَيْمَانُ ، وَقَالَ : لَيْتَ شِعْرِي ! مَا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ يَا أَبَا حَازِمٍ ؟
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْلَمْ مَا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ .
فَقَالَ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، أَيْنَ نُصِيبُ تِلْكَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ؟
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : عِنْدَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ { 13 } وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ { 14 } سورة الانفطار آية 13-14 .
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللَّهِ ؟
قَالَ أَبُو حَازِمٍ : قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ سورة الأعراف آية 56 .
قَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، مَنْ أَعْقَلُ النَّاسِ ؟
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : مَنْ تَعَلَّمَ الْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهَا النَّاسَ .
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : فَمَنْ أَحْمَقُ النَّاسِ ؟
قَالَ أَبُو حَازِمٍ ، مَنْ حَطَّ فِي هَوَى رَجُلٍ وَهُوَ ظَالِمٌ فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ .
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ : مَا أَسْمَعُ الدُّعَاءِ ؟
قَالَ أَبُو حَازِمٍ : دُعَاءُ الْمُخْبِتِينَ إِلَيْهِ .
قَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، فَمَا أَزْكَى الصَّدَقَةُ ؟
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : جُهْدُ الْمُقِلِّ .
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، مَا تَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؟
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : اعْفِنَا مِنْ هَذَا .
قَال سُلَيْمَانُ : نَصِيحَةٌ بَلَّغْتَهَا ، فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : إِنَّ نَاسًا أَخَذُوا هَذَا الأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلا إِجْمَاعٍ مِنْ رَأْيِهِمْ
فَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاءَ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ ارْتَحَلُوا عَنْهَا ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَا قَالُوا وَمَا قِيلَ لَهُمْ ؟ !
فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ : بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا شَيْخُ
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : كَذَبْتَ ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ .
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، كَيْفَ لَنَا أَنْ نَصْلُحَ ؟
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ ، تَدَعُوا التَّكَلُّفَ ، وَتَتَمَسَّكُوا بِالْمُرُوءَةِ
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ، كَيْفَ الْمَأْخَذُ لِذَلِكَ ؟
قَالَ أَبُو حَازِمٍ : تَأْخُذُهُ مِنْ حَقِّهِ وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ .
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : اصْحَبْنَا يَا أَبَا حَازِمٍ
وَتُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْكَ .
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ سُلَيْمَانُ : وَلِمَ ؟ قَالَ : أَخَافُ أَنْ أَرْكَنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا قَلِيلا فَيُذِيقَنِي ضَعْفُ الْحَيَاةِ ، وَضَعْفُ الْمَمَاتِ .
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : فَأَشِرْ عَلَيَّ يَا أَبَا حَازِمٍ
فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : اتَّقِ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ ، وَأَنْ يَفْقِدَكَ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكَ .
قَالَ سُلَيْمَانُ : يَا أَبَا حَازِمٍ ! ادْعُ لَنَا بِخَيْرٍ . قَالَ أَبُو حَازِمٍ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ وَلِيَّكَ ، فَيَسِّرْهُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
وَإِنْ كَانَ عَدُوَّكَ ، فَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِنَاصِيَتِهِ .
قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : عِظْ . قَالَ : قَدْ أَوْجَزْتَ إِنْ كُنْتَ وَلِيَّهُ
وَإِنْ كُنْتَ عَدُوَّهُ ، فَمَا يَنْفَعُكَ أَنْ أَرْمِيَ عَنْ قَوْسٍ بِغَيْرِ وَتَرٍ
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : يَا غُلامُ ، إِيتْ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، ثُمَّ قَالَ : خُذْهَا يَا أَبَا حَازِمٍ . فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : لا حَاجَةَ لِي بِهَا
إِنِّي أَخَافُ لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي
إِنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا هَرَبَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ، وَجَدَ عَلَيْهَا الْجَارِيَتَيْنِ تَذُودَانِ
فَقَالَ : مَا لَكُمَا عَوْنٌ ؟ قَالَتَا : لا . فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ
فَقَالَ : رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ سورة القصص آية 24
وَلَمْ يَسَلِ اللَّهَ أَجْرًا عَلَى دِينِهِ
فَلَمَّا أَعْجَلَ بِالْجَارِيَتَيْنِ الانْصِرَافُ ، أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُوهُمَا ، وَقَالَ : مَا أَعْجَلُكُمَا الْيَوْمَ ؟ !
قَالَتَا : وَجَدْنَا رَجُلا صَالِحًا فَسَقَى لَنَا
فَقَالَ : فَمَا سَمِعْتُمَاهُ يَقُولُ ؟ قَالَ : قَالَتَا : سَمِعْنَاهُ يَقُولُ : رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ سورة القصص آية 24 .
قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا جَائِعًا ، تَنْطَلِقُ إِلَيْهِ إِحْدَاكُمَا فَتَقُولُ لَهُ : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا
فَأَتَتْهُ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ، قَالَ : عَلَى إِجْلالٍ ، قَالَتْ : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا سورة القصص آية 25 .
قَالَ : فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، وَكَانَ طَرِيدًا فِي فَيَافِي الصَّحْرَاءِ ، فَأَقْبَلَ وَالْجَارِيَةُ أَمَامَهُ
فَهَبَّتِ الرِّيحُ ، فَوَصَفَتْهَا لَهُ ، كَانَتْ ذَاتَ خُلُقٍ ، فَقَالَ لَهَا : كُونِي خَلْفِي ، وَأَرِينِي السَّمْتَ
فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ دَخَلَ ، إِذَا طَعَامٌ مَوْضُوعٌ ، فَقَالَ : لَهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلامُ : أَصِبْ يَا فَتًى مِنْ هَذَا الطَّعَامِ
قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ : أَعُوذُ بِاللَّهِ . قَالَ شُعَيْبٌ : وَلِمَ ؟ قَالَ مُوسَى : لأَنَّا فِي أَهْلِ بَيْتٍ لا نَبِيعُ دِينَنَا بِمِلْءِ الأَرْضِ ذَهَبًا
قَالَ شُعَيْبٌ : لا وَاللَّهِ ، وَلَكِنَّهَا عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي ، نُطْعِمُ الطَّعَامَ وَنُقْرِي الضَّيْفَ ، فَجَلَسَ مُوسَى فَأَكَلَ
فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّنَانِيرُ عِوَضًا لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي ، فَلأَنْ أَرَى أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آخُذَهَا .
فَكَأَنَّ سُلَيْمَانَ أُعْجِبَ بِأَبِي حَازِمٍ ، فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! أَيَسُرُّكَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِثْلُهُ ؟
قَالَ الزُّهْرِيُّ : إِنَّهُ لَجَارِي مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً ، مَا كَلَّمْتُهُ بِكَلِمَةٍ قَطُّ .
فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ : صَدَقْتَ ، إِنَّكَ نَسِيتَ اللَّهَ فَنَسِيتَنِي ، وَلَوْ أَحْبَبْتَ اللَّهَ لأَحْبَبْتَنِي .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : أَتَشْتِمُنِي ؟ فَقَالَ سُلَيْمَانُ : بَلْ أَنْتَ شَتَمْتَ نَفْسَكَ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلْجَارِ عَلَى الْجَارِ حَقًّا ؟
فَقَالَ أبَوُ حَازِمٍ : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ
وَكَانَتِ الأُمَرَاءُ تَحْتَاجُ إِلَى الْعُلَمَاءِ ، فَكَانَتِ الْعُلَمَاءُ تَفِرُّ بِدِينِهَا مِنَ الأُمَرَاءِ
فَاسْتَغْنَتِ الأُمَرَاءُ عَنِ الْعُلَمَاءِ ، وَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ
فَشُغِلُوا وَانْتَكَسُوا ، وَلَوْ كَانَ عُلَمَاؤُنَا هَؤُلاءِ يَصُونُونَ عِلْمَهُمْ لَمْ تَزَلِ الأُمَرَاءُ تَهَابُهُمْ
قَالَ الزُّهْرِيُّ : كَأَنَّكَ إِيَّايَ تُرِيدُ وَبِي تُعَرِّضُ ؟ ! قَالَ : هُوَ مَا تَسْمَعُ "
|