الوطنية...راسبون في الدرس الأول!!

الوطنية...راسبون في الدرس الأول!!

بقلم د. أحمد العقيلي

قرأنا في الدرس الأدبي أن هناك فئة من أبناء بلاد الشام وغيرهم أجبرتهم ظروف الحياة على الهجرة إلى بلاد بعيدة في الأمريكيتين ،
وعاشوا هناك عقودا، ودرسنا أن أعذب أشعارهم هو ما صاغوه في أوطانهم الأم،
وكله يقطر رقة وعذوبة وصدقا ووفاء.
ونرى في واقعنا إخواننا العرب بين أيدينا وفي بلاد قصية، قست عليهم أوطانهم،
وقذفت بهم إلى مناف بعيدة لا يلوون على شيء من دنياهم، ولكن ذلك ما زادهم إلا حبا لأوطانهم ووفاء لها،
والويل لك إن نبست عن أوطانهم ببنت شفة، والله ليأكلنَّك أكل العيش في وطنك وأمام باب دارك.

البارحة صدر من قرارات الترشيد ما صدر فخرجت ثعابين أواخر الصيف تفح وتنفث سمومها عبر وسائل التواصل،
وللأسف كثير منهم من أبناء هذا الوطن، وضعوا ( هاشتاقات ) غريبة ومريبة،
مثل ذاك الذي يترحم على الملك عبدالله رحمه الله في ربط ذهني -عنده- بين هذا الرجل العظيم وبين الرواتب والعلاوات والبدلات،
وفي تعريض واضح بهذا العهد الزاهر الذي نعيشه.
أيها الطيبون الرائعون، دولتنا كانت وفية معنا كما هي دائما، لم تبخل على أبنائها بشيء،
ففي الوقت الذي يعاني فيه أخوك العربي في كل بلدان العرب من الفقر والفاقة ورسوم التعليم والصحة والرسوم والضرائب على كل شيء نتمتع بتعليم وتطبيب مجاني،
ورعاية اجتماعية،ناهيك عن خدمات كثيرة كلها مجانية.
الدولة كانت شفافة وصادقة مع أبنائها، واجهتهم بالحقيقة، وقالت:
هناك ظروف اقتصادية صعبة تواجه بلدكم اضطرتها لاتخاذ إجراءات مرت بقنوات،
وعكف على دراستها خبراء، وأعلنتها رسميا من خلال أكبر مجالس الدولة، مجلس الوزراء.
إن من يضيق ويتبرم ويتنكر لكل المحاسن والمواقف الجميلة أشبه ما يكون بمن يتخلى عن أبيه وأمه عند أول أزمة تعرض لهما،
فلا هو راعى قيم الدين الحنيف، ولا استقامت له قيم الرجولة حال ضعف الأول أو غيابه.
قالت الدولة إنها إجراءات وقتية وأعلنت ذلك جهارا نهارا ولو كنا في دولة بوليسية لسرت إليك هذه الأوامر في الليل البهيم لتصبَّحك في بيتك وعقر دارك فجأة
وجرِّب حينها الاعتراض وأعلن الامتعاض.
ليتنا نستوعب أن أطفالنا ونساءنا الذين شاهدنا جثثهم تتقاذفها الأمواج لترمي بها على شواطىء الغربة والضياع لم يحصل لهم ماحصل بسبب راتب أو بدل أو علاوة وإنما بسبب فتنة والفتنة أشد من القتل.
ولنفترض- في مثل هذا الظرف - أن الدولة توجهت إلى أبنائها وقالت لهم:
أيها الشعب الكريم الوفي يا أحفاد الصحابة ونسل الغر الميامين إن دولتكم تمر بضائقة اقتصادية،
وهي بحاجة إلى وقفتكم و( فزعتكم ) كل بما تجود به نفسه.!!!

فما نحن فاعلون حينها جميعا؟!

قد يأتي متحذلق ليقول نحن بلد بترولي ويبدأ يحلل ويعلل وكأنه لايرى بلدانا بترولية ضخمة يطحنها الجوع طحنا ويتشتت أبناؤها في المنافي،
وليت هذا المتحذلق يخبرنا ماذا يصنع إخواننا العراقيون في أوربا وكندا وأمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وكل دول العالم،
لماذا هاجروا من بلدهم الذي ينام على واحد من أضخم احتياطات العالم النفطية؟!

وليخبرنا لماذا إخواننا الجزائريون في فرنسا وألمانيا بالآلاف رغم أن بلدهم من أكبر الدول المنتجة للنفط، وعضو مؤسس في منظمة أوبك؟!

وماذا يصنع إخواننا الليبيون في آفاق الدنيا وبلدهم يختزن في جوفه أضخم وأنقى نفط في العالم؟!

دعك من هؤلاء العربان والبرابرة - إن شئت - فقد درجوا على الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق وهم أشد كفرا ونفاقا،
وأيديهم أوكت وأفواههم نفخت، لنفترض ذلك، فأخبرنا ما شأن فنزويلا تموت من الجوع اليوم وينبش شعبها القمامة وهي بلد نفطي ضخم وعضو مؤسس في أوبك؟!

وربما قال قائل وقد قيل:
نحن أولى من لبنان ومصر …إلخ، ويُرَد عليه أن هذا ليس منطق الدول، لأنه منطق ضيق لايتجاوز جيب صاحبه،
وليته يخبرنا لِمَ لايوجد مثل هذا المنطق عند المواطن الإيراني الذي تنفق فيه دولته مواردها النفطية الضخمة في سوريا، ولبنان، واليمن، وأفريقيا،
وجنوب شرق آسيا في الوقت الذي تطحن البطالة المواطن الإيراني طحنا؟!

ولِمَ لايكون هذا منطق الأمريكي الذي تدعم دولته دولا كاملة،
بل منظمات وجماعات متمردة في أنحاء العالم بمليارات الدولارات من جيب دافع الضرائب الأمريكي مباشرة؟!

وليته يخبرنا لِمَ تذهب الصين الدولة المليارية سكانا، والأولى بالرعاية التجارية أمريكيا
لِمَ تذهب إلى مجاهل أفريقيا لتنشئ أضخم المطارات وترصف أفضل الطرقات بعوائد طويلة الأجل لاتساوي عُشْر تكلفتها؟!

ولِمَ لم يكن هذا منطق دول العالم المتحضر عندما أُعلن عن توحيد المملكة العربية السعودية تحت هذا الاسم،
وطلب الملك عبدالعزيز العون للدولة الوليدة الشحيحة الموارد لتقدم كل دولة ما يمكنها،
حتى إن روسيا في ذلك الوقت أرسلت شحنة ( قاز ) معونة لدولة أضحت فيما بعد أكبر منتج لهذا القاز في العالم!

وليت هذا المتحذلق يخبرنا بنسبة ما تنفقه الدولة تحت بند المعونات الدولية مقارنة بما تنفقه في تنمية الوطن،
وفي الوقت نفسه مانسبته إلى ما تنفقه الدول المشار إليها؟!

هذه أمور نحتاج - حتى نستوعبها -لفرمتة أجزاء واسعة من عقولنا المسكونة بالوجع والفراغ.

إن ما رأيناه البارحة في وسائل التواصل الاجتماعي ينذر بالخطر، خطر ضعف الثقة بالله والتوكل عليه،
وخطر ضعف الانتماء الوطني لدى فئة منا، وخطر التأليب والتهييج وابتزاز الناس بحاجاتهم،
ومحاولة شحنهم لنصل إلى مرحلة تالية لتفخيخ المجتمع طمعا في الوصول إلى ما وصل إليه غيرنا من سوء الحال.

البارحة فُجعنا بصمت مريب من كثير من أدعياء الثقافة والتنوير، ومَن نطق منهم أنفق مما يملك من السباب ووزع تهم التخوين وألقاب التطبيل فحسب،
وليتهم يعلمون أن الوطنية ليست بالأوبريتات ولا بلف الأعلام على الأجساد ورفعها فوق السيارات والاستعراض بها في الطرقات،
فمثل هذه مهيأة للرمي بها في أقرب برميل دون توقير حتى لكلمة التوحيد عليها،
لأنهم باختصار يتعاملون مع القشور، وليتهم يدركون أن الثقافة سلوك إيجابي بناء وأن الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية ليست مجرد شعارات للترزز والاستعراض بها
وعكس السير في كل طرقات الحياة ومساربها…
نعم، هناك مطبلون كما أن هناك عرابون للفوضى الخلاَّقة من التلاميذ غير النجباء لنظرية كوندليزا رايس،
التي من المؤكد أنها لم ولن تمنحهم شرف التلمذة؛
لأنها وقومها يعرفونهم جيدا فكرا ومنهجا وسلوكا!

بلادي وإنْ جارتْ عليَّ عزيزةٌ
وأهلي وإنْ ضنوا عليَّ كرامُ