بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ..
(قراءة ذاتية في مرثية كعب الغنوي التي يرثي بها أخاه أبا المغوار )
في البدء :
متى نقول من عيون المراثي ؟!
إلا إذا كان المرثيــُّون عيونا !
وكيف نقرؤ ذاك الشعر ؟!
إلا إذا علمتنا الحياة تلك اللغة !
لغة الندب , والتأبين , وصدق الرثاء ..
, , , ,
الأخوّة رباط ٌ رباني مقدس , لا تنفصم عراه بالهجر ، ولا تضعف أواصره بالرحيل ..
وما أكثر بكاء الإخوة في تراثنا :المهلهل وكليب , الأعشى ومنتشر , الخنساء وصخر ... ومجموعة الإخوة الثكالى غير منتهية ..
ومنها هذه القصيدة التي قالها الشاعر المسلم : كعب بن سعد الغنوي , ذكره ابن سلام في طبقاته , وسئل عنه الأصمعي فقال : مرثية ليس في الدنيا مثلها ..
هي بائية ٌ مضمومة , وبكائية ٌ مكلومة ..
تقول سليمى : ما لجسمك شاحب ٌ ** كأنك يحميك الشراب طبيب ُ
إنه لا يعاني شحوبا جسديا وحسب يا سليمى ! لـَــهان َ العرَض ُ , ولكنه بعد أبي المغوار يقاسي شحوبا نفسيا , وهذا من شديد المرض ..!
تتابع أحداث تخر من إخوتي ** وشيــَّبن رأسي , والخطوب ُ تُشيب ُ
لعمري لئن كانت أصابت مصيبة **أخي والمنايا للرجال شعوب ُ ..
لقد كان أما حلمه فمروح ٌ **علينـــا , وأما جهله فعزيب ُ!!
حليم ٌ إذا ما سورة الجهل أطلقت **حبا الشيب للنفس اللجوج غلوب ُ
صفات لا محسوسة يبرع الشاعر في تحويلها لكائن حي متحرك.. مرئي ومسموع ..
خـِلالٌ تستعصي على القياس والتحديد , لكن الرحيل يؤطّــرها , والغياب يسطِّرها ..
وهذا لا يتحقق إلا لمثل أبي المغوار كما يراه أخوه : خيره مقيم ٌ بين مضارب الأرواح , وفضله ضارب ٌ بجذوره في أعماق الأعماق .. شره بعيد "عزيب ُ!" عاقل يغلب النفس "اللجوج " ويتحكم بسورة الطيش وهوى النفس ..
لأنه أخي .... وما أدراك من وما أخي ؟!!!
أخي ! ما أخي ؟!! لا فاحش ٌ عند بيته ** ولا ورع ٌ عند اللقاء هيوب ُ
هو العسل الماذي ّ حلما ونائلا ** وليث ٌ إذا يلقى العدو َّ غضوب ُ
أخو شتوات ٍ يعلم القوم أنه ** سيكثر ما في قدره ويطيب ُ
حبيب ٌ إلى الزوار غشيان بيته ** جميل المحيا , شب َّ وهو أديب ُ
هوت أمــُّه ما يبعث ُ الصبح غاديا !!** وماذا يؤدي الليل حين يؤوبُ
هوت عرســُه ماذا تضمــَّن قبرُه ُ **من المجد والمعروف حين يثيب ُ
إنه (مهيب الحضور مجيب النداء) , هو( العسل, الليث) , (الشاب ,الأديب ),( العفيف , المقدام )
(الحبيب , الجميل ) ( رائع الإصباح , بديع الإمساء ) مثله لا بد أن أمه "تهوى " أدق ّ ما يحضره لها صباحا , وتعشق أرَق ّ َ ما يقوله لها مساء !..."تهوى " كل ما يمت ّ له بصلة ! والهوى يختلف عن الحب أنه قوة مسيطرة لا ترتبط بوقت , لا يبدؤها مسبب ولا ينهيها زوال سبب ..
هذا أبو المغوار عند أهله وخاصته .. فكيف كان عند "الرجال " تأملوا هيبة الحضور والحضور حتى في الغيبة :
إذا ما تراءته الرجال تحفظوا ** فلم تنطق العوراء وهو قريب ُ
فتى لا يبالي أن يكون بجسمه **-إذا نال خلاَّت الكرام ِ- شحوب ُ
حليف الندى , يدعو الندى فيجيبه **قريبا ويدعوه الندى فيجيب ُ
فتى أريحي ٌ , كان يهتز ّ للندى ** كما اهتز من ماء الحديد قضيب ُ
كعالية الرمح الرديني لم يكن ** إذا ابتدر الخير الرجال يخيب ُ !
مفيدٌ , ملقي الفائدات, معاود **لفعل الندى والمكرمات كسوب ُ
ترى عرصات الحي تمسي كأنها ** إذا غاب !!!! لم يحلــُل ْ بهن عريب ُ
يترنــَّح المعنى الملتاع , وتتأرجح ُ الفكرة ُ الثكلى .. فمن أقصى الشجاعة لأبهى الكرم , من أعلى الهيبة لأغلى العطاء ,, يذهب الشاعر ويعود لذات الأفكار , ويدور في نفس الدائرة .. لكن لا بأس , لا تثريب عليه ؛ "فما انسدَّت الدنيا عليه لضيقها !!"
ليته يعود ! ليت الموت خطفه رهينة ! ثم طلب ما يشاء فدية له !إذن لافتداه : بم َ ؟ بالمال ؟ بكل ما لا تمله النفوس ؟ بالعينين ؟ باليدين "كلا لأنه أكرم من أن يذكر اليسرى معه فلن يفتديه إلا بما يشبهه : اليد اليمنى .. كما كان الراحل دوما "يدا يمنى " !
فلو كان ميتا يُفتدى لافتديتــُه ُ** بما لم تكن عنه النفوس تطيب ُ
بعيني .. أو يمنى يدي َّ !! وقيل لي ** هو الغانم الجذلان حين يؤوب ُ
ولا أقسى من مواقف الفقد إلا مواقف ارتبطت بشموخ الفقيد فكانت من اختصاصه , حين يُعرف بها ويناديه من يحتاجه فيها فلا يرد ..
أيها الباحث عنه : ارفع صوتك رجاء ً " لعل أبا المغوار منك قريب ُ "!
وداع ٍ دعا هل من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبــْه ُ عند ذاك مجيب ُ !!
فقلت ادفع بأخرى وارفع الصوت دعوة ** لعل َّ أبا المغوار منك قريب ُ !
يجبــْك , كما قد كان يفعل إنه ** أمثالــها رحب الذراع ِ أريب ُ
أتاك سريعا واستجاب إلى الندا ** كذلك قبل اليوم كان يجيب ُ !
يعود مترنحا باللوعة للكرم والشجاعة , لا تترك له الذكرى فسحة ً من نسيان , ولا سبيلا من سلوى .. فكل ما بقي بعده : (قلــــيــــل ) .. انتهت منه الدنيا وتجهزت لتخطف آخر , فما أحمق من يؤمل كثيرا في دار فناء ٍدنيــّة ..
يبيت الندى يا أم عمرو ٍ ضجيعــُه ** إذا لم يكن في المنقيات حلوب ُ
فعشنا بخير ٍ حقبة ثم جلحت ** علينا , التي كل الرجال تصيب ُ !!
فأبقت قليـــــــــــلا فانيا وتجهــَّزت ** لآخر والراجي الحياة كذوب ُ
وأعلم أن الباقي الحي منهما ** إلى أجل ٍ أقصى مداه ُ قريب ُ
من يبكيك أبا المغوار .. بل السؤال الأحرى والأكثر حرارة من الذي لا يبكبك ؟
ليبكــِك َ شيخ ٌ لم يجد من يعينه ** وطاوي الحشا نائي المزار غريب ُ
كأن َّ أبا المغوار لم يوف مرقبا ** إذا ربأ القوم الغزاة رقيب ُ
ما تركت له صعقة موت أبي المغوار إلا حريق الأسئلة , واشتعال الإجابات ..فكان الحد الفاصل بين الحياة قبله والحياة بعده ..فالراحل يبدو باسقا في ذاكرته بلا خطايا بلا عيوب ,- وكثيرا ما نرى الراحلين أجمل .. ونسمع أصواتهم أندى وأعذب- .. تمتليء ببهاء صورته السماء , ويتضمخ بعطر ذكراه المساء,, فيتواصل الليل بالنهار , وتلتحم الصورة بالذكرى .. ويمتد المساء ليشمل جوانب الحياة كلها .. كل ما بعده " ليل "
انهار النهار بغروب أبي المغوار ..
ويستمر الغيث الباكي بالهطول ..فيرتفع منسوب الصدق .. و يفيض,, ليغمر َ قلوبا منكوبة , ويعمرَ صدورا مسلوبة :
وإني لباكيــه , وإني لصادق ٌ ** عليه وبعض القائلين كذوب ُ
لعمر كما أن البعيد الذي مضى ** وإن الذي يأتي غدا لقريب ُ !!
ألا هل أتى أهل المقانب أنه ** أقام وعرّى الناجيات ِ شبيب ُ
فتى الحرب إن حاربت كان سمامها ** وفي السفر مفضال اليدين وهوب ُ
إذا ذرَّ قرن ُ الشمس عللــْت ُ بالأسى !** ويأوي إلي َّ الحزن ! حين تغيب ُ !!
. . . . . .
وفي الختام :
لم َ تأثر بهذه الدامعة كثير من الشعراء ؟!
" تتضح عند أبي العتاهية : إذا ما خلوت الدهر "
لا لصورة مبتكرة ولا لمعنى نادر ..
بل تفردت ولا شك :
لحريق الفقد الموغل في حنايا الضلوع ..
الذي لا تطفئه شلالاتُ الحزن المتدفق في دموع ..
لفائض الصدق .. وفارض الحُــب ّ ..
تأثروا ؛
لــِكــَم ِّ المؤكدات اللغوية, واللا لغوية ..
(وإنِّي لـَبـَاكـِيهِ وإنِّي لـَصادقٌ )
رحم الله موتانا وموتى المسلمين .. ومتـَّعــَنـَا وإياهم بلذة النظر إلى وجهه الكريم..
والحمد لله رب العالمين ..