عرض مشاركة واحدة
قديم 09-18-2012   #3


شروق الامل غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1079
 تاريخ التسجيل :  Jun 2012
 أخر زيارة : 05-02-2014 (07:57 PM)
 المشاركات : 5,164 [ + ]
 التقييم :  23321
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي رد: لمحات من حياة شيخ الاسلام ابن تيميه



- شهادة تلميذه الشيخ محمد بن أحمد بن عبدالهادي :

قال الشيخ ابن عبدالهادي: ثم لم يبرح شيخنا في ازدياد من العلوم، وملازمة الاشتغال والإشغال، وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبيل الخير، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم والأناة والإنابة، والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصدق والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق، ونفع الخلق، والإحسان إليهم، والصبر على من آذاه، والصفح عنه والدعاء له، وسائر أنواع الخير.

وكان رحمه الله سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء المبتدعين، وإماماً قائماً ببيان الحق ونصرة الدين. وكان بحراً لا تكدره الدلاء، وحبراً يقتدي به الأخيار الأولياء. طنّت بذكره الأمصار وضنّت بمثله الأعصار.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي (ولد سنة 654 بالمزة. وتوفي سنة 742): ما رأيت مثله. ولا رأى هو مثل نفسه، ولا رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه.
وقال الشيخ الحافظ أبو الفتوح محمد بن سيد الناس اليعمري الأندلسي، ثم المصري (ولد سنة 671 وتوفي بالقاهرة سنة 734) -بعد أن ذكر ترجمة الحافظ جمال الدين المزي- وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام، شيخ الإسلام، تقي الدين، أبي العباس: أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية- فألفيته: كاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إن تكلم في التفسير: فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه: فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث: فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالنّحل والملل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من رايته. برز في كل فن على أبناء جنسه. ولم تر عين من رآه مثله
ولا رأت عينه مثل نفسه. كان يتكلم في التفسير، يحضر مجلسه الجم الغفير، ويرتوون من بحر علمه العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه من أهل بلده داء الحسد. وألّب أهل النظر منهم ما ينتقد عليه في حنبليته من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلاماً، أوسعوه بسببه ملاماً، وفوّقوا لتبديعه سهاماً، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فتنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازعه طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف عن عيوب تلك الطوائف، وذكر لها بوائق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضعن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فكتبوا محاضر. وألّبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية، فنقل وأودع السجن ساعة حضوره، واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قوماً من عمار الزوايا وسكان المدارس، من كل متحامل في المنازعة، مخاتل بالمخادعة، ومن مجاهر بالتفكير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون {وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون}. وليس المجاهر بكفره أسوأ حالاً من المخاتل، وقد دبت إليه عقارب مكره. فرد الله كيد كل في نحره. فنجاه الله على يد من اصطفاه، والله غالب على أمره ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة، فقلّد ما تقلد من اعتقاله. ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله

5 - شهادة الحافظ جلال الدين السيوطي :


ابن تيمية الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر البارع شيخ الإسلام، علم الزهاد، نادرة العصر، تقي الدين أبو العباس أحمد المفتي شهاب الدين عبدالحليم بن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين عبدالسلام ابن عبدالله بن أبي القاسم الحراني.

أحد الأعلام، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة.
وسمع ابن أبي اليسر. وابن عبدالدائم، وعدّة.
وعني بالحديث، وخرج وانتقى، وبرع في الرجال، وعلل الحديث وفقههه وفي علوم الإسلام وعلم الكلام، وغير ذلك. وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد، والأفراد، ألف وثلاثمائة مجلدة، وامتحن وأوذي مراراً

6 - شهادة أبو الحسن السبكي قاضي القضاة :


ومما وجد في كتاب كتبه العلامة قاضي القضاة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ أبي عبدالله الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين المذكور: أما قول سيدي في الشيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره. وزخارة بحره. وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية. وفرط ذكائه واجتهاده. وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف. والمملوك يقول ذلك دائماً. وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل. مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة. ونصرة الحق. والقيام فيه لا لغرض سواه. وجريه على سنن السلف. وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى. وغرابة مثله في هذا الزمان. بل من أزمان.


7 - شهادة الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي :


قال ابن حجر العسقلاني المولود في القاهرة والمتوفي بها سنة 852هـ وصاحب كتاب فتح الباري شرح البخاري وكتاب التهذيب وهو الذي لقب بأمير المؤمنين في الحديث. قال تقريظاً لكتاب الرد الوافر للإمام ابن ناصر الدين الدمشقي وهو الذي كتبه مؤلفه رداً على أن من زعم من متعصبي الأحناف أنه لا يجوز تسمية ابن تيمية بشيخ الإسلام وأنه من فعل ذلك فقد كفر!! (انظر) فكتب ابن ناصر الدين الدمشقي كتاباً سماه الرد الوافر ذكر فيه أكثر من بضع وثمانين إماماً من أئمة المسلمين كلهم سمى ابن تيمية بشيخ الإسلام ونقل نقولهم من كتبهم بذلك، ولما قرأ الحافظ بن حجر رحمه الله هذا الكتاب الرد الوافر كتب عليه تقريظاً هذا نصه:

الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وقفت على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لأجلها جامع، فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنفه، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين العلماء وشرفه، وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره، أو تجنب الأنصاف، فما أغلط من تعاطي ذلك وأكثر عثاره، فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله، ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل إلا ما نبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه: أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين، وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جداً شهدها مئات ألوف، ولكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير من كان ببغداد أو أضعاف ذلك، لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته، وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد، وكان أمير بغداد وخليفة ذلك الوقت إذا ذاك في غاية المحبة له والتعظيم، بخلاف ابن تيمية فكان أمير البلد حين مات غائباً. وكان أكثر من بالبلد من الفقهاء قد تعصبوا عليه حتى مات محبوساً بالقلعة، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف (عليه) إلا ثلاثة أنفس، تأخروا خشية على أنفسهم من العامة.
ومع حضور هذا الجمع العظيم فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته لا بجمع سلطان ولا غيره، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أنتم شهداء الله في الأرض] (رواه البخاري ومسلم). ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته ولا حكم بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وكثرة ورعه وزهده، ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام، والدعوة إلى الله تعالى في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق أنه كافر، بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام الكفر، وليس في تسمية بذلك ما يقتضي ذلك فإنه شيخ في الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عناداً، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترحم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه، بل هو معذور لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر إليه، وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني شهد له بذلك، وكذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره، ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فيا قرة أعينهم إذ سمعوا بكفره، ويا سرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره، فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر فيحذر منه على قصد النصح، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف، لكن غاية في الدلالة على عظم منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم، والتميز في المنطوق والمفهوم، أئمة عصره من الشافعية وغيرهم! فضلاً عن الحنابلة، فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر، أو على من سماه شيخ الإسلام، لا يلتفت إليه، ولا يعول في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق ويذعن للصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
صفة خطه أدام الله بقاءه.
قال وكتبه أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي عفا الله عنه، وذلك في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأول عام خمسة وثلاثين وثمانمائة حامداً لله، ومصلياً على رسوله محمد وآله ومسلماً



ابن تيمية: العابد الورع


إن مجدداً يقوم في مثل تلك الظلمات التي كانت في القرن الثامن الهجري لا يمكن أن يفلح في دعوته بمجرد العلم حتى لو كان علماً لا يصارع ولا يصاول ولا يطاول.. بل لا بد وأن يكون مع هذا العلم إيمان وتقوى، واستمداد من الله ورجوع دائم إليه، وقيام بحق العباد، وإخلاص في كل ذلك لله حتى يبارك هذا العلم وتؤتي ثماره، وكذلك كان شيخنا شيخ الإسلام العابد الورع التقي وهذه شهادة تلميذه الحافظ أبي عمر بن علي البزار رحمه الله. قال في بيان عبادته وورعه:

قال أما تعبده رضي الله عنه فإنه قل أن سمع بمثله، لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه، حتى إنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى ما يراد له من أهل ولا من مال. وكان في ليلة متفرداً عن الناس كلهم، خالياً بربه عز وجل، ضارعاً، مواظباً على تلاوة القرآن العظيم. مكرّراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية. وكان إذا ذهب الليل وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنّها قبل إتيانه إليهم. وكان إذا أحرم بالصلاة يكاد يخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام. فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميد يمنة ويسرة. وكان إذا قرأ يمد قراءته مداًّ كما صحّ في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ركوعه وسجوده وانتصابه عنهما من أكمل ما ورد في صلاة الفرض. وكان يخف جلوسه للتشهد الأول خفة شديدة، ويجهر بالتسمية الأولى حتى يسمع كل من حضر. فإذا فرغ من الصلاة أثنى على الله عز وجل هو من حضر بما ورد من قوله [اللهم أنت السلام.. الحديث]. ثم يقبل على الجماعة، ثم يأتي بالتهليلات الواردات حينئذ. ثم يسبّح الله ويحمده ويكبره ثلاثاً وثلاثين، ويختم المائة بالتهليل. كما أورد، وكذا الجماعة، ثم يدعو الله تعالى له ولهم وللمسلمين أجناس ما ورد.
وكان غالب دعائه (اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وأمكر لنا ولا تمكر علينا، وأهدنا ويسّر الهدى لنا، اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، إليك راغبين، لك مخبتين، إليك راهبين، لك مطاويع. ربنا تقبل توباتنا، وأغسل حوباتنا، وثبت حججنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا) يفتتحه ويختمه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يشرع في الذكر. وكان قد عرفت عادته لا يكلمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر. فلا يزال في الذكر يسمع نفسه، وربما يسمع ذكره من الروحانية، مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء. هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس وتزول، وقت النهي عن الصلاة.
وكنت مدة إقامتي بدمشق ملازمه جل النهار وكثيراً من الليل. وكان يدنيني منه حتى يجلسني إلى جانبه. وكنت أسمع ما يتلو وما يذكر حينئذ. فرأيته يقرأ الفاتحة ويكررها، ويقطع ذلك الوقت كله، أعني من الفجر إلى ارتفاع الشمس في تكرير تلاوتها. ففكرت في ذلك لم قد لزم هذه السورة دون غيرها. فبان لي، والله أعلم، أن قصده بذلك أن يجمع بتلاوتها حينئذ بين ما ورد في الأحاديث وما ذكره العلماء: هل يستحب تقديم الأذكار الواردة على تلاوة القرآن أو العكس؟ فرأى رضي الله عنه أن في الفاتحة وتكرارها حينئذ جمعاً بين القولين، وتحصيلاً للفضيلتين. وهذا من قوة فطنته وثاقب بصيرته. ثم إنه كان يركع، فإذا أراد سماع حديث في مكان آخر سارع إليه من فوره، مع من يصحبه. فقل أن يراه أحد ممن له بصيرة إلا وانكب على يديه فيقبلهما، حتى إنه كان إذا رآه أرباب المعايش يتخبطون من حوانيتهم للسلام عليه والتبرك به، وهو مع هذا يعطي كلا منهم نصيباً وافراً من السلام وغيره، وإذا رأى منكراً في طريقه أزاله، أو سمع بجنازة سارع إلى الصلاة عليها، أو تأسف على فواتها، وربما ذهب إلى قبر صاحبها بعد فراغه من سماع الحديث، فصلى عليه. ثم يعود إلى مسجده، فلا يزال تارة في إفتاء الناس، وتارة في قضاء حوائجهم حتى يصلي الظهر من الجماعة، ثم كذلك بقية يومه. وكان مجلسه عاماً للكبير والصغير، والجليل والحقير، والحر والعبد، والذكر والأنثى. وقد وسع كل من يرد عليه من الناس. يرى كل منهم في نفسه أن لم يكرم أحداً بقدره. ثم يصلّي المغرب، ثم يتطوع بما يسره الله. ثم أقرأ عليه من مؤلفاته أنا أو غيري، فيفدنا بالطرائف، ويمدنا باللطائف، حتى يصلي العشاء ثم بعدها كما كنّا وكان: من الإقبال على العلوم إلى أن يذهب هوي من الليل طويل. وهو في خلال ذلك كله، في النهار والليل، لا يزال يذكر الله تعالى ويوحده، ويستغفره.
وكان رضي الله عنه كثيراً ما يرفع طرفه إلى السماء، لا يكاد يفتر عن ذلك، كأنه يرى شيئاً يثبته بنظره. فكان هذا دأبه مدة إقامتي بحضرته. فسبحان الله ما أقصر ما كانت! يا ليتها كانت طالت. ما مرّ على عمري إلى الآن زمان كان أحبّ إليّ من ذلك الحين، ولا رأيتني في وقت أحسن حالاً منّي حينئذ، وما كان إلاّ ببركة الشيخ رضي الله عنه.
وكان في كل أسبوع يعود المرضى، خصوصاً الذي بالمارستان وأخبرني غير واحد ممن لا يشك في عدالته أن جميع زمن الشيخ ينقضي على من رأيته. فأي عبادة واجتهاد أفضل من ذلك؟ فسبحان الموفق من يشاء لما يشاء.
ورعه رضي الله عنه:
وكان رضي الله عنه في الغاية التي ينتهي إليها في الورع. لأن الله تعالى أجراه مدة عمره كلها عليه. فإنه ما خلط الناس في بيع ولا شراء ولا معاملة، ولا تجارة، ولا مشاركة، ولا زراعة، ولا عمارة. ولا كان ناظراً مباشراً لما وقف، ولا يكن يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مدخراً ديناراً ولا درهماً ولا متاعاً ولا طعاماً ، وإنما كانت بضاعته مدة حياته، وميراثه بعد وفاته، رضي الله عنه، العلم اقتداء بسيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، فإنه قال: [إن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر].
وكان ينبّه العاقل بحسن الملاطفة ورقيق المخاطبة ليختار لنفسه طريقتهم، ويسلك سبيلهم. وإن كان دونها من الطرائق من اتخاذ المباحات جائز، لكان العاقل يدله عقله على طلب الأعلى. فانظر بعين الإنصاف إلى ما وفق الله له هذا الإمام وأجرى، مما أقعد عنه غيره وخذله عن طلبه، ولكن لكل شيء سبب، وعلامة عدم التوفيق سلب للأسباب. ومن أعظم الأسباب لترك فضول الدنيا التخلي عن غير الضروري منها، فلما وفق الله هذا الإمام لرفض غير الضروري منها انصبت عليه العواطف الإلهية فحصل بها كل فضيلة جليلة، بخلاف غيره من علماء الدنيا، مختاريها وطالبيها والساعين لتحصيلها، فإنهم لما اختاروا ملاذها وزينتها ورياستها انسدت عليهم غالباً طرق الرشاد فوقعوا في شركها يخبطون خبط عشواء، ويحطبونها كحاطب ليل، لا يبالون ما يأكلون ولا ما يلبسون ولا ما يتأولون إلا ما يحصل لهم أغراضهم الدنيئة ومقاصدهم الخبيثة الخسيسة، فهم متعاضدون على طلبها متحاسدون بسببها، أجسامهم ميتة، وقلوبهم من غيرها فارغة، وظواهرهم مزخرفة معمورة، وقلوبهم خربة مأبورة. ولم يكفهم ما هم عليه حتى أصبحوا قالين رافضها، معادين باغضها. ولما رأوا هذا الإمام عالم الآخرة، تاركاً هم عليه من تحصيل الحطام من المشتبه الحرام، رافضاً الفضل المباح فضلاً عن الحرام، تحققوا أن أحواله تفضح أحوالهم وتوضح خفي انفعالهم، وأخذتهم الغيرة النفسانية على صفاتهم الشيطانية، المباينة لصفاته الروحانية. فحرصوا على الفتك به أين ما وجدوا، وأنسوا أنهم ثعالب وهو أسد. فحماه الله تعالى منهم بحراسته، وصنع له غير مرة ما صنع لخاصته، وحفظه مدة حياته وحماه، ونشر له عند وفاته علماً في الأقطار بما والاه. انتهى (الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية 37-43).


 
 توقيع : شروق الامل

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس